حرب المفاوضات السودانية

حرب المفاوضات السودانية

من تناقضات الحرب المستمرة في السودان ومآسيها ووحشية وقائعها على أرض المعارك، التي طالت مدناً ومؤسسات ومواطنين، تتعدد الدعوة إلى التفاوض، من منبر إلى آخر، في أكثر من دولة وقارة ومنظمة تشمل وسطاء وداعمين ومحرضين لطرفي النزاع. ومثلما تتمدد الحرب ميدانيا، تتسع دائرة التفاوض، من دون التوصل إلى نقاط توافق، أو حدٍ أدنى من التقارب في وجهات النظر بشأن كارثة الحرب.

فإذا كانت الحرب بضراوتها المعلومة، وما تشيعه من فوضى، فإن التفاوض لمعالجة الأزمة السودانية دخل بدوره مرحلة الفوضى بين قبول ورفض وسرية وحرب بيانات ومكايدات سياسية، بين طرفي النزاع الدامي. وتحولت جولات التفاوض إلى أجندة غامضة تعبر عن نوايا باطنة للطرفين أكثر من محاولة تجاوز محنة الحرب. وخرجت بالتالي المفاوضات من سياق الحوار السلمي لفض النزاع بمعناه الفني كاستراتيجية سياسية وقانونية إلى مناورات سياسية لا تأبه بما تخلفه الحرب من آثار على الواقع في بعده الإنساني.

 

شروط أو مطالب الطرفين بكل ما رشح منها، أو ما يتوقعه المراقب عادة في خواتيم الحروب، وما يمليه الواقع على الأرض على مائدة التفاوض، أو شروط المنتصر بالتعريف السائد إلا أن لا أحد من الطرفين يملك أيا من تلك الشروط. فالمعادلة مربكة خاصة للطرف الحكومي الذي يمثله الجيش، وهو جيش الدولة في كل الأحوال مهما كانت درجة تسييس هذا الجيش، وهو يجد نفسه في تفاوض يجمعه بما يطلق عليه الميليشيا (قوات الدعم السريع) التي تقل عنه كفاءة، أو يفترض ذلك بموازين القوة والمؤسسة.

وبالمقابل تراهن قوات الدعم على موقفها الجديد الذي اكتسبته بالحرب، ما يجعلها تفرض شروطها بفعل القوة لا شرعية التمثيل العسكري والسياسي. وإن موقف الطرفين من القبول بالتفاوض، وتحمل ما يفضي إليه من مقررات ملزمة لطرفي الصراع يقتضي إرادة سياسية لتحويل طبيعة الصراع من عسكري إلى مدني، ولكن يبدو أن من واقع تعثر عمليات التفاوض أن الطرفين لا يملكان التفويض المطلق في إدارة ملف التفاوض. ومن هنا يفهم الموقف ويمكن تصور ما جرى من تطور للصراع، وكل ما يتصل به من جذور الأزمة في بعدها السياسي وأجندتها الإقليمية والدولية.

 

منبر جدة أولى منصات التفاوض التي جمعت بين وفدي الطرفين برعاية أمريكية سعودية في مدينة جده بالعربية السعودية، وكانت الآمال قد تعلقت بنتائجه التي بالضرورة تعني وقف نزيف الحرب، دون تفاصيل لاحقة تضمنتها بنود الاتفاق. والمنبر الذي عقد في مايو الماضي بُعيد بداية الحرب في الخامس عشر من أبريل من العام الماضي أحاطه الغموض، وأرجئت جلساته وغابت مخرجات تفاصليه بسبب تضارب التصريحات. وإذا بدور رعاة التفاوض، الذي عرفوا فنيا بالمسهلين Facilitators بين وفدي التفاوض، من دون تفاوض مباشر، لا يعدو أن يكون التسهيل وصفا مراوغا، لأن تقريب وجهات النظر من قبل الرعاة، لا بد أن يلقي بوزن الدولتين الولايات المتحدة والعربية السعودية بأثره على المفاوضين. وأبرز ما حققه منبر جده الهدن القصيرة، لوقف إطلاق النار واستئناف التفاوض بين وقت وآخر، بعد فترات طويلة من التأجيل والتعليق والاتفاق في جولته الثانية على إدخال المساعدات الإنسانية. وبعد انهيار الجولة الأولى وبدا أن الموقف الحكومي متردد منذ بداية التفاوض في التعاطي الجاد مع مخرجات المنبر، رغم تعلله بشرط يقول، إن قوات الدعم لم تلزم به، وهو خروج قواته من منازل المواطنين.

 

بينما مثلت منصات التفاوض الإقليمي بالرعاية الدولية مساحة جديدة لقوات الدعم السريع على المشهد الدولي، ومن ثم تتالت جولات التطواف الدبلوماسي لقائد قوات الدعم السريع، فقد استقبل في دول المنظمة الإقليمية، وطاف قائدها الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي) بجولات رئاسية في تلك البلدان من جنوب افريقيا في الجنوب إلى جيبوتي في الشرق.

 

إن المواقف المتأرجحة إزاء خطوات التفاوض، ونبرة الانتقام التي ولدتها الحرب لدى الطرفين عقّدت من محاولات الجلوس للتفاوض والإصرار على الحسم العسكري

 

أما منبر الهيئة الحكومية للتنمية (الإيغاد) فأصبح محل مثار جدل ومسرحا آخر للصراع بين الطرفين، فقد مورست عليه كل وسائل الحرب بوسائلها السياسية الأخرى على مقولة الاستراتيجي البروسي كارل كلاوزفيتز. وبطبيعة الوقائع، فإن منبر الإيغاد ودوله هي الأقرب إلى التدخل في المسألة السودانية، كما شهدت دوله الكثير من الاتفاقيات التي أنهت حروب السودان ونزاعاته المختلفة منذ السبعينيات، ولكن بما أن السياسة أو الأنظمة لا تثبت على حال فإن التأثير الإقليمي والدولي ورفض الحكومة السودانية (الجيش) بقيادة الفريق البرهان قائد الجيش كل مقررات المنظمة على كل المستويات الوزارية والرئاسية، فقد كان لتوتر العلاقة وما صاحبها من حرب إعلامية بين دولة كينيا ورئيسها والبرهان، قد القى ظلاله على الوجهة الشرق أفريقية، ومضى الجانب الحكومي إلى تعليق عضويته بالمنظمة الإقليمية، مما غيبه عن المشاركة في آخر قمة في هذا الشهر الجاري في كمبالا في يوغندا.

 

ويكون بذلك قد قطع الطريق أمام محاولاتها للوساطة بما اعتبره الجانب السوداني تدخلا في شؤونه الداخلية، وهي خطوة غير مسبوقة في تاريخ السودان مع المنظمات الإقليمية أو الدولية. فأياً تكن المبررات التي سوغت بها هذا التجميد المفاجئ في ظل علاقات متوترة مع دول عدة تجاور السودان، تكون الحسابات الاستراتيجية قبل الدبلوماسية لمصالح الدولة العليا، قد أسيء توظيفها بما يخدم الأزمة السودانية في الحل السلمي الذي تفرضه دواعيه الإنسانية.

 

إن المواقف المتأرجحة إزاء خطوات التفاوض، ونبرة الانتقام التي ولدتها الحرب لدى الطرفين عقّدت من محاولات الجلوس للتفاوض والإصرار على الحسم العسكري، وهذه المفارقة بين استمرار المعارك، بل اتساعها رقعتها على طول البلاد، والاستمرار في التفاوض المتردد يعكس الأزمة الحادة، وخلط الأوراق بين ما هو سياسي وعسكري ودبلوماسي، وهذا ما كشفه التسريب الإعلامي مؤخراً، دون التحقق من مصادر رسمية ما جرى بين ممثل الجيش الفريق شمس الدين كباشي نائب قائد الجيش، ونائب قوات الدعم السريع عبد الرحيم دقلو شقيق حميدتي، من مفاوضات سرية جرت في العاصمة البحرينية المنامة، جمعت أطرافاً من مخابرات دول عربية وغربية.

 

وأثار الخبر أو التسريب إرباكا في المشهد السياسي الداخلي والخارجي، وتكشف بالتالي عن تعدد القرار وضعف موقف قيادة الجيش، الذي يحاول جاهداً تحسين صورته شعبيا أمام سقوط قواعده العسكرية في العاصمة والولايات.

 

التفاوض السري يقوض المصداقية السياسية للجيش، الذي يرفض الحوار المدني الذي دعت اليه أطراف منظمات المجتمع المدني وتحالف الأحزاب المدنية بالخارج بينما يستجيب سراً ليفاوض قوات الدعم السريع. إن التحرك البطيء تجاه المفاوضات والرهان على الواقع العسكري كآخر خيار يعيد الأمور إلى ما قبل الحرب، لن يحقق سلاماً يأتي به الانتصار الحاسم لأي طرف.

 

ولأن نتائج ذلك تترتب عليها تضحيات جسيمة على الأطراف المدنية، التي لم يسمع لها صوت في خضم التصاعد العسكري. فمن الراجح أن المفاوضات ومنابرها المتعددة تتأثر بالتدخلات الإقليمية والدولية، وتحديداً تلك الداعمة لطرفي الصراع، ما يجعل من استقراء الممكن في أوراق المفاوض محاولة للتخمين أكثر منها للتحليل، وإن يكن تفسيرها على واقع ما يجرى في النطاق السياسي كافيا للتوصل إلى أسباب التعثر المستمر في المفاوضات السودانية.

 

والعبرة في الأزمة السودانية ليست بتعدد المنابر والمبادرات، بينما تحمل التقارير الدولية هول ما سببته الحرب من تقتيل وتشريد، لرقم فاق كل التصورات ودخلت بالتالي في دائرة جرائم الحرب، ما يعني تدخلا قضائيا دوليا (محكمة الجنايات الدولية) وأمميا تحت بنود الفصل السابع بما باتت تمثله الحرب الدائرة من تهديد للأمن والسلم الدوليين بنص البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة. فإذا كان التفاوض لا يؤدي إلا إلى إطالة أمد الحرب، كما تشهد به الوقائع ويستخدم كأدوات ضغط من كل الأطراف المشاركة فإن الأهداف البعيدة والقريبة للحرب قد تتحقق بما يؤدي إلى المزيد من الدمار، أكثر مما حققته الحرب حتى الآن.

 

وعلى شاكلة الحروب الأهلية في بلد كالسودان يتاخم إقليما ملتهبا كالقرن الأفريقي، ويقع ضحية لصراع النفوذ والمصالح. فالتشدد في رفض التفاوض كملجأ أخير لإنهاء الأزمة السودانية موقف تقف وراءه جهات تعبر عن أجندتها السياسية لا الوطنية وربما خدمة لأهداف حزبية تتجاوز في كل الأحوال الجيش والدولة والمواطن سلطة وقدرة على تحريك المشهد العسكري والسياسي.

كاتب سوداني

حرب المفاوضات السودانية
Comments (0)
Add Comment