الثورة السودانية .. إلى أين؟!

عبدالمنعم عثمان

وعدت ففي المقال السابق تحت نفس العنوان، أن أواصل الحديث عن المجتمعين الدولي والإقليمي والعلاقة المحتملة بينهما وسودان ما بعد انتصار الثورة، كقضية هامة بالنسبة لتطور الثورة واتجاهاتها المستقبلية. غير أن تسارع الأحداث وبعض المناقشات التي تمت من بعض الأصدقاء لما جاء في المقال السابق، أدت إلى ضرورة توضيح أمر هام من جانبي كنت قد أثرته عديد مرات في مقالات سابقة غير أن اللبس فيه لا يزال يرد باستمرار في كل ما شاهدت وقرأت من مجادلات حول الوضع الراهن بالسودان ووسائل تخطيه. وهو الأمر الذي جاء في العنوان الثاني (ثورة أم إصلاح؟)، ذلك أني اعتقد أن الأسئلة التي تطرح الآن في أغلب ما أطلعت عليه كانت بالضرورة أن تأتى الإجابة عليها بما يحدث إذ أنها تطرح بالخطأ في رأيي وكأن، القضية هي: ايجاد طريقة سريعة لحلحلة المشكلة الماثلة بأسباب تختلف حسب منطلق المجيب، فهناك من يجيب بأنه لا بد من الجلوس مع الجميع، عسكر وحرامية، تفاديًا لما قد يحدث من انفجار للأوضاع مثلما حدث في أقطار الربيع العربي، وهي نفس الأسباب التي ظل يرددها النظام السابق، حيث كان يحاول اقناعنا بأن الاستقرار تحت نظامه بكل سوءاته التي اعترف ببعضها، أفضل مما سيجره الوصول إلى ما حدث ويحدث هنا وهناك…الخ ، ولولا الخجل لقال هؤلاء: يا حليل زمن الكيزان! ويقول آخرون: كيف تريدون حل المشكلة وايقاف إهراق دم الشباب وانتم ترفعون شعار اللاءآت الثلاثة، وأن هناك سلطة امر واقع، وأن تكن جاءت بانقلاب، فلا بد من الجلوس معها للوصول إلى حل. وطبعًا هؤلاء يتناسون أننا كنا نرفض الجلوس مع عمر البشير عندما ضاقت الأمور بنظامه فلجأ إلى حيلة الحوار الوطني، والتي رفضتها نفس قوى الثورة صاحبة اللاءات الثلاث وقبلها الممسكون العصاة من منتصفها، والذين كان قبولهم لطرح أصحاب اللاءات بأن السبيل الوحيد لأنهاء النظام هو في الثورة، هو الذي أدى إلى إسقاط رأس النظام على الأقل، غير أن بعض المواقف المائعة قد أدت إلى انتصار خطة اللجنة الأمنية للنظام بما نتج عنه استيلاؤها التدريجي على السلطة والعمل في مرحلة ما بعد انقلاب أكتوبر إلى إعادة السلطة الانقاذية بقضها وقضيضها لاحقًا! وهناك أيضًا من يضع قليلًا من البيض في سلة الشارع ولجان المقاومة وبعضًا آخر في سلة الثلاثية الدولية الأفريقية ولكنه يشترط على الثلاثية عدم الجلوس مع العسكر إلا إذا تنازلوا عن الانقلاب وما لحقه من إجراءات مثل قانون الطوارئ والاعتقالات… الخ وهؤلاء كأنهم لا يرون ميل المجتمع الدولي والإقليمي إلى ضرورة الجلوس مع العسكر وأن العسكر لا يرون ضرورة للجلوس مع المكون المدني إلا إذا توافقت كل القوى السياسية على أمر مشترك، وهو الأمر مستحيل الحدوث في السودان وفي غيره من بلدان الدنيا الديموقراطية منها والدكتاتورية ولو كان ممكنًا في الماضي لما وصل المكون العسكري إلى السلطة، ولو أمكن الآن أو في أي لحظة لما بقى المكون العسكري في السلطة للحظة!
كل هذا الإسهاب في ما هو معروف أو يجب أن يكون معروفًا لكل من له علاقة بأمور السياسة كان بسبب إيضاح خطأ الطرح الذى يؤدي بالضرورة إلى خطأ التحليل وبالتالي النتائج! وللاتفاق على صحيح ما يجب طرحه، أجدني مضطرًا لتكرار كثير مما ظللت أقول به في مقالات سابقة، راجيًا من من يطلع عليه القبول به كأساس لأي جدل لاحق أكون طرفًا فيه ، أو رفضه بأسباب مقنعة:
• أولًا: اختلاف ما حدث في ديسمبر عن كل انتفاضات ثورية سودانية وغير سودانية، ففي السودان حدث في أكتوبر 1964 انتفاضة ضد أول انقلاب نجح في تسلم السلطة من رئيس حكومة ديموقراطية لمدة ست سنوات. ولما كانت القوى التي ناضلت بحق خلال تلك السنوات هي قوى ثورية رفعت نفس شعارات ضرورة التغيير الجذري لما أدى إلى الانقلاب، فقد مثلت في حكومات ما بعد الانتفاضة بأغلبية كبيرة، ولكنها قبل أن تتمكن من وضع بصمتها على السياسات من أجل وضع أسس التغيير، كانت قوى الثورة المضادة قد جمعت أطرافها واستطاعت أن تجبر رئيس الوزراء على الامتثال. ولم يكن ذلك لضعف ذلك الرئيس بقدر ما كان امتثالًا لتوازن القوى الذي مال لصالح الثورة المضادة. أما ما حدث في أبريل 1985 فلم يختلف في النتيجة وإن كانت أسباب اختلال توازن القوى بين الثورة والثورة المضادة كانت قد بدأت منذ السنوات الأخيرة لحكم مايو، حيث استطاعت جماعة الإخوان المسلمين التسلل إلى مواقع السلطة مستغلة تحول نميري إلى خليفة للمسلمين، إلى جانب ما حل بقوى الثورة من بعثرة وتنكيل بقيادة الاخوان، حيث ضعف وجودهم في النقابات والتنظيمات المدنية، ثم تمثلت ثالثة الأثافي في انحياز وزير الدفاع الذي اتضحت “كوزنته “في ما بعد إضافة إلى نائبه الذي أتضح أنه كوز كامل الدسم… الخ ..الخ من بقية أعضاء المجلس العسكري وكذلك مجلس الوزراء! أما اختلاف ديسمبر فيكفى في التدليل عليه أن شارعه أصر لمدة فاقت السنوات الأربع على شعارات التغيير الجذري، بينما يزداد توسعًا عدديًا ونوعيًا مقدمًا من التضحيات الفعلية بالروح والدم ومتمسكًا في نفس الوقت بسلمية حيرت مناوئيه في السلطة وخارجها من اتخاذ إجراءات تناسب انهائه، مكتشفًا كل يوم لوسائل نضالية جديدة ومفرزًا قياداته من خلال النشاط الثوري اليومي.
• إذن العمل الثوري اليوم ينحو إلى ثورة تغيير جذري وبالتالي فإن علينا أن نتجادل في ما حدث ويحدث أثناء مسيرتها على هذا الأساس. ولأنى مقتنع بان المطلوب الآن وتسعى
إليه الجماهير الثورية هو تغيير جذري، فأنا ألاحظ من متابعاتي أنها ثورة مستمرة وأنها تقوم بالتغيير الجذري في مناح كثيرة لمن يرى من نفس المنطلق، فمثلًا، في المجال الثقافي: تابعت منذ بدء إرسال قناة (سودان بكرة)، ولعل كل من تابعها قد لاحظ عدة أشياء من حيث الشكل والمحتوى. فمن حيث الشكل، ومع قلة الموارد إلا، أن أسلوب إخراج البرامج والصور المتابعة قد تطور كثيرًا. وأما من حيث المحتوى فأنا أرى أنها تسير بالفعل في اتجاه تحقيق اسمها (سودان بكرة) حيث تقدم يرامج عن مستقبل الأشياء في نفس الوقت الذي لا تهمل فيه مصائب الماضي. فأصبحت تقدم مسرحيات تختلف تمامًا عما كنا نشاهده طوال سنوات ما بعد الاستقلال، بل وتعقد ندوات في أيام تالية للعروض لنقد ما قدم. وبالأمس شاهدت برنامج يقدم طفلة لم يتجاوز عمرها الثماني سنوات وهو يعرض أعمالها الفنية الزاهية. ويبدو أن تأثيرها قد امتد إلى القنوات السودانية الأخرى التي أصبحت تقدم برامج جاذبة في العمل السياسي إلى جانب الثقاف. وفي هذا لا بد من ذكر البرامج التي تعرض الأوضاع السياسية في سودانية 24 والخرطوم وأيضًا النيل الأزرق، والتي تشعر وانت تشاهدها بان من يقدمون البرامج ليسوا أبواقًا للسلطة على أقل تقدير. كذلك شاهدت مساء الأمس برنامجًا غنائيًا قدم أحد المطربين الشباب إلى جانب الموسيقار الكبير الموصلي الذي تحدث عن ثورة تحدث في مجال الغناء السوداني في اتجاهه نحو العالمية من خلال إدخال علم التوزيع الموسيقى وفي هذا اعلن إنه الآن يقود فرقة من الشباب يبلغ عددهم السبعين من مغن ومغنية وعازف آلات موسيقية ووعدنا بتقديم أعمالهم قريبا. أليس في كل هذا ما يدل على أن ثورة تحدث في كل هذه المجالات: ثورة إبداع؟!
• فإذا كان ما قدمنا مقنع، يصبح لا معنى للمجادلة في أي إجراء إصلاحي تقوم به أي جهة تعمل في الحقل السياسي سواء أكانت تلك الجهة محلية بالكامل أو خارجية بالكامل أو محلية لكنها تمثل اتجاهًا خارجيًا دوليًا أو إقليميًا. وبناءً على هذا التقييم فأني أرى أن خطوة التحالف بين الحزب الشيوعي وحركتي عبدالواحد والحلو تعبر تمامًا عن شعارات وتطلعات الثورة الديسمبرية المتفردة. ومن غير اعتبار لما يقال من أن الحزب بهذا يريد أن ينفرد بالقيادة وأنه بهذا قد أبتعد عن الجبهات القائمة بما في ذلك جزء من قوى لجان المقاومة والتنظيمات المهنية، فإن ما جاء من خطوط عريضة للاتفاق الذي تم يعبر إلى حد كبير عن متطلبات الثورة التي تدعو إلى سودان جديد لا أظن أن هناك خلاف على أسسه بين الثوريين. وإن وجد فإن ما سمعناه من تقديم لتلك الخطوط لا يمنع من مناقشته مع من يود الانضمام إلى التحالف مع تحفظه على قضايا معينة. اللهم إلا إذا كان مانع الانضمام هو ما ظل يواجهه الحزب الشيوعي من اتهام.
• هناك من يجادل بأن السياسة هي فن الممكن وبالتالي فلا يمكن تحقيق كل ما نريد بضربة واحدة، وبالتالي يقول هؤلاء المجادلون دعونا نتفق أولًا على انهاء الانقلاب ومظاهره ومن ثم ننتقل إلى استكمال مهام الثورة وشعاراتها. وقد يبدو هذا منطقي إذا كنا نريد إصلاحا مؤقتًا. ولعل في الانتكاسة التي حدثت نتيجة لقبول فرية انضمام اللجنة الأمنية لنظام الانقاذ إلى الثورة، ثم تتابع الأحداث بمحو كل ما قامت به الفترة الانتقالية داخليًا من أعمال لجنة التفكيك وخارجيًا من ارجاع جزئي للسودان للمجتمع الدولي وأخيرًا عودة الانقاذ بكورتيها، لعل فيها ما يفيد بأنك لا يمكن ان تنفذ نصف ثورة أبدًا! إذن: هناك الآن سبيلان لا ثالث لهما: طريق الثورة الساعي إلى تغيير جذري، وهو طريق قد يطول في الأساس بسبب المترددين في اتخاذ قرار الانضمام إلى الثورة المستمرة والتي وضحت معالم انتصارها وكذلك بسبب مواقف أصحاب المصالح المضادة لانتصارها في الداخل والخارج الإقليمي والدولي. والسبيل الثاني هو تقديم رجل وتأخير أخرى بأسباب قد تبدو حقيقية أو مختلقة. وأقول لأصحاب الأسباب التي تبدو حقيقية ارجو أن تعجلوا بتفهم الأمور على حقيقتها ليصبح انضمامكم مفيدًا ومشكورًا مثل انضمام أربع وأربعين في الشوط الثاني للمباراة بين الحشرات والعناكب، حيث تقول النكتة أن الشوط الأول الذي لم تشارك فيه أم أربع وأربعين فريق الحشرات انتهى بفوز فريق العناكب 7 مقابل صفر، ولكن المباراة انتهت 15 مقابل 7 بعد نزول أم أربعة وأربعين التي أحرزت جميع الإصابات الخمسة عشر. عندما سئلت أين كنت في الشوط الأول، أجابت بأنها كانت مشغولة بلبس الكدارات! وطبعًا لتقليل وقت الانضمام لا بد من لبس الكدارات مبكرًا أو تقليل عدد الأرجل أيهما أمكن!!
Comments (0)
Add Comment